شهد الشرق الأوسط تحولات جذرية خلال الأشهر القليلة الماضية، حيث غيَّرت إسرائيل بشكل كبير وجه المنطقة، فقد تلقت حركة حماس والجهاد الإسلامي ضربة كبيرة، بعد مقتل إسماعيل هنية، كما فقد حزب الله اللبناني جزءًا حيويًا من قيادته بمقتل أمينه العام حسن نصرالله، مع عدد من قادة هذا التنظيم.
وأظهرت الصور، التي نشرها الجيش الإسرائيلي، أن نصرالله وقادة حزب الله الرئيسين مثل فؤاد شكر، قائد الجناح العسكري، وإبراهيم عقیل، قائد العمليات وقائد وحدة رضوان، وعلي کرکی، قائد جبهة الجنوب، قُتلوا جميعًا.
والآن، يجب على حزب الله اختيار شخص آخر بدلاً من نصرالله كأمين عام، ومن المحتمل أن يتدخل علي خامنئي وقادة الحرس الثوري في هذا الاختيار، كما في السابق.
وإذا كان هاشم صفی الدین، رئيس المجلس الجهادي، قد نجا، وكذلك نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، فسيكونان الخيارين الرئيسين لخلافة نصرالله، وكلاهما قريب من النظام الإيراني، لكن هاشم صفی الدین يعتبر خيارًا عسكريًا أكثر، وهو والد زوجة قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي قُتل في غارة أميركية على العراق.
أما نعيم قاسم فهو من مؤسسي حزب الله في الثمانينيات، وقد تم انتخابه نائبًا للأمين العام خمس مرات، لكن هاشم صفی الدین لديه دعم أكبر بين قوات الحرس الثوري. بغض النظر عن أي اختيار، سيصبح خليفة نصرالله هدفًا رئيسًا للعمليات الهجومية الإسرائيلية، وستكون حياته أيضًا في خطر.
ومع مقتل القادة الرئيسين لحزب الله، يواجه الحزب تحديًا كبيرًا في اختيار قادته العسكريين أيضًا. وإذا كان طلال حمیه، القائد القديم لحزب الله، قد نجا، فمن المحتمل أن يتولى قيادة الجناح العسكري، وهو مطلوب من قِبل الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فمن غير المحتمل أن يعود حزب الله إلى مكانته السابقة تحت قيادة نصرالله التي دامت 32 عامًا؛ حيث تدهورت وضعيته بشكل كبير في لبنان، بعدما تعرضت قوته العسكرية ومصداقيته لضرر جسيم.
وعلى المدى القصير، ستتعرض الوضعية السياسية لحزب الله في لبنان أيضًا للضغط، وهذا ما سيسعد خصوم الحزب السياسيين، مثل التيار المسيحي الماروني وتيار المستقبل السني، بتضعيف حزب الله.
وعلى المستوى الإقليمي، سيسعد العديد من الدول العربية، بتقليص نفوذ حزب الله، رغم انتقاداتها لإسرائيل، فقد كان حزب الله دائمًا يُعتبر من وكلاء طهران، التي تتدخل في شؤون العالم العربي؛ لذلك، يعتبر إضعاف هذه المجموعة، من منظور بعض الحكومات العربية، بمثابة تقليل للتدخلات الإيرانية في المنطقة.
وفي المقابل، فإن دولًا مثل سوريا والعراق، التي تتماشى مع النظام الإيراني، ستعبر عن استيائها الشديد من هذه التطورات وستعلن الحداد.
وفي الداخل الإيراني، تلقى المرشد وقادة الحرس الثوري، صدمة بمقتل نصرالله وقادة الحزب اللبناني؛ حيث لم يتصور نظام طهران أن أهم وكلائه بالمنطقة سيتعرض لمثل هذه الضغوط الإسرائيلية بهذه السرعة والشدة.
وتواجه إيران، الآن، مفترق طرق صعبًا؛ فإذا لم ترد على الهجمات الإسرائيلية، فإن مصداقيتها المتدنية ستتضرر أكثر، ولكن إذا قررت الرد، فستزداد احتمالات الهجمات المضادة من إسرائيل.
وفي الهجمات الأخيرة لإسرائيل على ضاحية بيروت، قُتل عباس نیلفروشان، أحد القادة الرئيسين للحرس، أيضًا، وهو الذي كان مسؤولاً عن ملف لبنان وسوريا في قوة القدس، وتم تعيينه في هذا المنصب، بعد وفاة محمد رضا زاهدي، قائد الحرس الثوري السابق في لبنان.
وتشير هذه التطورات إلى أن إسرائيل لم تستهدف فقط القادة الرئيسين لحزب الله وحماس، بل دمرت أيضًا جزءًا كبيرًا من شبكة القيادة للحرس الثوري في لبنان وسوريا.
وأعرب مؤيدو النظام الإيراني عن استيائهم الشديد من مقتل حسن نصرالله، وأبدوا عدم رضاهم عن عدم رد طهران على هذا الهجوم.
وعلى النقيض، شعر العديد من الناس في إيران بالفرح بموت نصرالله، والسبب الرئيسي لهذا الفرح هو أنهم يعلمون أن النظام حزين؛ حيث إن العديد من الإيرانيين يعارضون هذا النظام، ولذلك فإن أي حدث يُكدّر هذه الحكومة يسعدهم.
كما أن الاعتقاد السائد بين العديد من الإيرانيين هو أن حزب الله، وغيره من وكلاء النظام، قد لعب دورًا في قمع احتجاجات الشعب الإيراني، ولذلك، فعندما تستهدف إسرائيل قادة حزب الله، يشعر هؤلاء الناس بالرضا عن هذا الوضع.
وفي الواقع، يحلل العديد من المواطنين الإيرانيين القضايا المتعلقة بإسرائيل ولبنان من منظور معارضتهم للنظام الإيراني، وينظرون إلى ما يسره أو يحزنه، ويفعلون العكس تمامًا.
وتبدو هذه النظرة في تصرفات الناس؛ إذ يقول العديد من المواطنين إن النظام الإيراني قتل أبناءنا المحتجين في الشوارع، لكن الآن، مع وجود قوة أقوى تتعاظم وتقوم بإذلال هذا النظام وقتل قادة وكلائه، فإن ذلك يبعث على الفرح.
وفي الواقع، لقد انقسم المجتمع الإيراني منذ سنوات إلى مجموعتين: مجموعة صغيرة تستفيد من النظام وهي حزينة الآن لمقتل نصرالله، وفي المقابل، هناك مجموعة أكبر من الناس في إيران لا يريدون هذا النظام، ويشعرون بالفرح بتقليص هذه الحكومة ومجموعاتها بالوكالة، ويستقبلون موت نصرالله بترحاب.
وفي النهاية، وضعت هذه التطورات نظام طهران في أزمة شديدة، فهل ستتمكن إيران من تجاوز هذه المرحلة الحرجة، أم ينبغي أن نتوقع تحولات أكبر في المستقبل؟
ومن منظور إسرائيل، تحمل هذه التطورات عدة عواقب رئيسة؛ أولها أن المؤسسات الاستخباراتية والعسكرية الإسرائيلية، التي كانت موضع تساؤل كبير، بعد هجوم حماس في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تمكنت الآن من إعادة بناء مصداقيتها بفضل انتصاراتها الملحوظة وإضعاف حماس وحزب الله، فضلاً عن مقتل هنية ونصرالله.
كما تم استعادة مكانة بنيامين نتنياهو، الذي تدهور وضعه بعد هجوم حماس ومقتل بعض الرهائن. الآن، نتنياهو في فترة عمله، قد أزال كلاً من زعيمي حماس وحزب الله.
أيضًا، تمكنت القوات الجوية الإسرائيلية، من خلال الضربات التي وجهتها لحزب الله، من تثبيت دورها الحاسم في الحرب واستراتيجيات إسرائيل العسكرية، وأظهرت قوتها لبقية القوات الجوية في الشرق الأوسط.
ويبدو أن النقطة الاستراتيجية الأهم في الهجمات الأخيرة لإسرائيل على حماس وحزب الله، وخاصةً على ضاحية بيروت، هي أن إسرائيل تسعى لاستعادة هيمنتها العسكرية في المنطقة. لقد كان أساس استراتيجيات إسرائيل العسكرية دائمًا هو أن تكون القوة العسكرية المهيمنة في الشرق الأوسط حتى لا تتجرأ أي دولة على تهديد وجودها.
وتتمثل شدة هجمات إسرائيل على قطاع غزة ولبنان، جزئيًا، في إرسال رسالة واضحة إلى التهديدات المحتملة والحالية ضد إسرائيل: أي تهديد لبقائنا سيواجه بأشد ردود الفعل.
لكن هل يعني ذلك أن المعادلات العسكرية والاستراتيجية في الشرق الأوسط ستتغير لصالح إسرائيل في المستقبل؟ ليس بالضرورة. الفجوات والتحديات القومية والدينية والسياسية في الشرق الأوسط عميقة وديناميكية لدرجة أنه من غير الممكن السيطرة عليها وإدارتها في المدى القصير. في هذه المنطقة، أحيانًا تكون اليد العليا مع إسرائيل وأحيانًا مع أعدائها.
والآن، تسعى إسرائيل إلى إضعاف حماس وحزب الله قدر الإمكان طالما أنها في موقع القوة، وتغيير المعادلات الكبرى في المنطقة لصالحها. وتدرك إسرائيل أنه إذا أتيحت الفرصة لأعدائها، سيقومون بتهديد هذا البلد مرة أخرى. لذلك، تواصل إسرائيل هجماتها بغض النظر عن التوصيات للحد من التوترات، لتقليل إرادة حماس وحزب الله والجمهورية الإسلامية لمواجهة المزيد.
نقطة أخرى جديرة بالاهتمام هي تجاهل نتنياهو والجيش الإسرائيلي لتوصيات إدارة بايدن. كانت الولايات المتحدة تطلب من إسرائيل باستمرار الحفاظ على مستوى منخفض من التوترات، لكن نتنياهو، برفضه سياسات بايدن تجاه طهران، اتخذ مساره الخاص، حيث انتهجت إسرائيل استراتيجية تصعيد التوترات الناتجة عن أعدائها لدفعهم إلى الوراء.